فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه الصفات المذكورة في الحديث من الشح المطاع والهوى المتبع الخ مظنة لعدم نفع الأمر بالمعروف. فدل الحديث على أنه إن عدمت فائدته سقط وجوبه.
تنبيه:
الأمر بالمعروف له ثلاث حكم:
الأولى: إقامة حجة الله على خلقه، كما قال تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165].
الثانية: خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف، كما قال تعالى في صالحي القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت، {قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ} [الأعراف: 164] الآية، وقال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات: 54]، فدل على أنه لو لم يخرج من العهدة، لكان ملومًا.
الثالثة: رجاء النفع المأمور، كما قال تعالى: {مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164]، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} [الذاريات: 55]، وقد أوضحنا هذا البحث في كتابنا «دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب» في سورة الأعلى في الكلام على قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى} [الأعلى: 9]، ويجب على الإنسان أن يأمر أهله بالمعروف كزوجته وأولاده ونحوهم، وينهاهم عن المنكر. لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيَّته»، الحديث.
المسألة الرابعة: اعلم أن من أعظم أنواع الأمر بالمعروف كلمة حق عند سلطان جائر، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: «أفضل الجهاد كلمة تدل عند سلطان جائر»، أخرجه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن.
وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه: أن رجلًا سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد وضع رجله في الغرز: أيُّ الجهاد أفضل؟ قال: «كلمة حق عند سلطان جائر» رواه النسائي بإسناد صحيح.
كما قاله النووي رحمه الله، واعلم أن الحديث الصحيح قد بين أن أحوال الرعية مع ارتكاب السلطان ما لا ينبغي ثلاث:
الأولى: أن يقدر على نصحه وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر من غير أن يحصل منه ضرر أكبر من الأول، فآمره في هذه الحالة مجاهد سالم من الإثم، ولو لم ينفع نصحه ويجب أن يكون نصحه له بالموعظة الحسنة مع اللطف. لأن ذلك هو مظنة الفائدة.
الثانية: ألا يقدر على نصحه لبطشه بمن يأمره، وتأدية نصحه لمنكر أعظم، وفي هذه الحالة يكون الإنكار عليه بالقلوب، وكراهة منكره والسخط عليه، وهذه الحالة هي أضعف الإيمان.
الثالثة: أن يكون راضيًا بالمنكر الذي يعمله السلطان متابعًا له عليه، فهذا شريكه في الإثم، والحديث المذكور هو ما قدمنا في سورة البقرة عن أم المؤمنين، أم سلمة هند بنت أبي أمية رضي الله عنها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة» أخرجه مسلم في صحيحه.
فقوله صلى الله عليه وسلم «فمن كره» يعني بقلبه، ولم يستطع إنكارًا بيد ولا لسان فقد برئ من الإثم، وأدى وظيفته. ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية، ومن رضي بها وتابع عليها، فهو عاص كفاعلها.
ونظيره حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند مسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» وقوله في هذه الآية الكريمة {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} صيغة إغراء يعني: الزموا حفظها كما أشار له في «الخلاصة» بقوله:
والفعل من أسمائه عليك ** وهكذا دونك مع إليك

. اهـ.

.قال الفخر:

قرئ لا يضركم بفتح الراء مجزومًا على جواب قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} وقرئ بضم الراء، وفيه وجهان: أحدهما: على وجه الخبر أي ليس يضركم من ضل، والثاني: أن حقها الفتح على الجواب ولكن ضمت الراء اتباعًا لضمة الضاد.
ثم قال تعالى: {إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} يريد مصيركم ومصير من خالفكم {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني يجازيكم بأعمالكم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

وفي وقوله: {لا يضركم مَن ضلَّ إِذا اهتديتم} قولان:
أحدهما: لا يضركم من ضل بترك الأمر بالمعروف إِذا اهتديتم أنتم للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قاله حُذيفة بن اليمان، وابن المسيّب.
والثاني: لا يضرُّكم من ضل من أهل الكتاب إِذا أدُّوا الجزية، قاله مجاهد.
وفي قوله: {فينبئكم بما كنتم تعملون} تنبيهٌ على الجزاء. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {إلى الله مرجعكم جميعًا} الآية، تذكير بالحشر وما بعده، وذلك مسل عن أمور الدنيا ومكروهها ومحبوبها، وروي عن بعض الصالحين أنه قال: ما من يوم إلا يجيء الشيطان فيقول: ما تأكل وما تلبس وأين تسكن؟ فأقول له آكل الموت وألبس الكفن وأسكن القبر.
قال القاضي أبو محمد: فمن فكر في مرجعه إلى الله تعالى فهذه حاله. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِلَى الله} لا إلى أحد سواه {مَرْجِعُكُمْ} رجوعكم يوم القيامة {جَمِيعًا} بحيث لا يتخلف عنه أحد من المهتدين وغيرهم {فَيُنَبّئُكُمْ} بالثواب والعقاب {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من أعمال الهداية والضلال، فالكلام وعد ووعيد للفريقين، وفيه كما قيل دليل على أن أحدًا لا يؤاخذ بعمل غيره وكذا يدل على أنه لا يثاب بذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {إلى الله مرجعكم جميعًا} عذر للمهتدي ونذارة للضالّ.
وقدّم المجرور للاهتمام بمتعلّق هذا الرجوع وإلقاء المهابة في نفوس السامعين، وأكّد ضمير المخاطبين بقوله: {جميعًا} للتنصيص على العموم وأن ليس الكلام على التغليب.
والمراد بالإنباء بما كانوا يعملون الكناية عن إظهار أثر ذلك من الثواب للمهتدي الداعي إلى الخير، والعذاب للضالّ المعرض عن الدعوة.
والمرجع مصدر ميمي لا محالة، بدليل تعديته بـ {إلى}، وهو ممّا جاء من المصادر الميمية بكسر العين على القليل، لأنّ المشهود في الميمي مِن يَفعِل بكسر العين أن يكون مفتوح العين. اهـ.

.قال سيد قطب:

{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم تعملون}.
إنه التميز والمفاضلة بينهم وبين من عداهم. ثم إنه التضامن والتواصي فيما بينهم بوصفهم أمة واحدة.
{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}.
أنتم وحدة منفصلون عمن سواكم، متضامنون متكافلون فيما بينكم. فعليكم أنفسكم.. عليكم أنفسكم فزكوها وطهروها؛ وعليكم جماعتكم فالتزموها وراعوها؛ ولا عليكم أن يضل غيركم إذا أنتم اهتديتم. فأنتم وحدة منفصلة عمن عداكم؛ وأنتم أمة متضامنة فيما بينها بعضكم أولياء بعض، ولا ولاء لكم ولا ارتباط بسواكم.
إن هذه الآية الواحدة تقرر مبادىء أساسية في طبيعة الأمة المسلمة، وفي طبيعة علاقاتها بالأمم الأخرى.
إن الأمة المسلمة هي حزب الله. ومن عداها من الأمم فهم حزب الشيطان. ومن ثم لا يقوم بينها وبين الأمم الأخرى ولاء ولا تضامن، لأنه لا اشتراك في عقيدة؛ ومن ثم لا اشتراك في هدف أو وسيلة؛ ولا اشتراك في تبعة أو جزاء.
وعلى الأمة المسلمة أن تتضامن فيما بينها؛ وأن تتناصح وتتواصى، وأن تهتدي بهدي الله الذي جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن الأمم غيرها.. ثم لا يضيرها بعد ذلك شيئًا أن يضل الناس حولها ما دامت هي قائمة على الهدى.
ولكن ليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى. والهدى هو دينها هي وشريعتها ونظامها. فإذا هي أقامت نظامها في الأرض بقي عليها أن تدعو الناس كافة، وأن تحاول هدايتهم، وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة لتقيم العدل بينهم؛ ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم..
إن كون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله لا يضيرها من ضل إذا اهتدت، لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولًا، ثم في الأرض جميعًا، وأول المعروف الإسلام لله وتحكيم شريعته؛ وأول المنكر الجاهلية والاعتداء على سلطان الله وشريعته. وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت، والطاغوت هو كل سلطان غير سلطان الله وحكمه.. والأمة المسلمة قوامة على نفسها أولًا؛ وعلى البشرية كلها أخيرًا.
وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الآية كما فهم بعضهم قديمًا- وكما يمكن أن يفهم بعضهم حديثًا- أن المؤمن الفرد غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- إذا اهتدى هو بذاته- ولا أن الأمة المسلمة غير مكلفة إقامة شريعة الله في الأرض- إذا هي اهتدت بذاتها- وضل الناس من حولها.
إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر، ومقاومة الضلال ومحاربة الطغيان- وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله واغتصاب سلطانه وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته، وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي وهذا المنكر قائم.
ولقد روى أصحاب السنن أن أبا بكر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا علكيم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}.. وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر، ولا يغيرونه، يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه».
وهكذا صحح الخليفة الأول- رضوان الله عليه- ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة. ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح، لأن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق. فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الآية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه، ويريحهم من عنت الجهاد وبلائه!
وكلا والله! إن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد. ولا يصلح إلا بعمل وكفاح. ولابد لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إليه، ولإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ولتقرير ألوهية الله في الأرض، ولرد المغتصبين لسلطان الله عما اغتصبوه من هذا السلطان، ولإقامة شريعة الله في حياة الناس، وإقامة الناس عليها.. لابد من جهد. بالحسنى حين يكون الضالون أفرادًا ضالين، يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة. وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى؛ وتعطل دين الله أن يوجد، وتعوق شريعة الله أن تقوم.
وبعد ذلك- لا قبله- تسقط التبعة عن الذين آمنوا. وينال الضالون جزاءهم من الله حين يرجع هؤلاء وهؤلاء إليه: {إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم تعملون}. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

فعلى ما ذكرنا عن الزجاج في معنى الآية، هي محكمة، وقد ذهب قومٌ من المفسرين إِلى أنها منسوخة، ولهم في ناسخها قولان:
أحدهما: أنه آية السيف.
والثاني: أن آخرها نسخ أولها.
روي عن أبي عبيد أنه قال: ليس في القرآن آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه، وموضع المنسوخ منها إِلى قوله: {لا يضركم من ضل} والناسخ: قوله: إِذا اهتديتم.
والهُدى هاهنا: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. اهـ.